على الرغم من إعلان فنانى المدرسة التجريدية الحديثة الثورة على التقاليد الفنية القديمة ؛ إلا أن ما لايمكن تجاهله أو إنكاره أنه مازالت لبعض الفنون القديمة فى وجدان هؤلاء الفنانين جذور داخلية عميقة فى اللاشعور ؛ تضفى أثارها وتبدو فى الأعمال الفنية لهؤلاء الفنانين .
تأثير الفن المصرى القديم على الفن التجريدى الحديث :
كان للمعتقدات الدينية أثر كبير فى حياة قدماء المصريين وبالتالي فى فنهم ولعل أهمها اعتقاد المصرى القديم فى حياة ثانية بعد الموت الذى لم يعتبره نهاية الحياة ؛ بل اعتبرها فترة قصيرة ينتقل بعدها الفرد إلى حياة أبدية على غرار الحياة الدنيا وإن الروح تعود إلى الجسد بعد الوفاة ولذلك عرف التحنيط للمحافظة على الجسد انتظارا لعودة الروح ؛ واعتنى ببناء المقابر أكثر من إهتمامه بتشييد مساكنه الدنيوية وزين جدرانها بمناظر وصور تمثل حياة المتوفى اليومية بما تحويه من موضوعات مختلفة ( ألعاب رياضية – صيد – زراعة وغيرها ) .
كذلك آمن المصرى القديم فى عهد الأسرات بأن الملك هو من نسل الآلهة ؛ يشيد له المعابد وينحت له التماثيل ، فظهرت فى أعماله الكثير من الأحداث والأخبار كأخبار الحروب والموضوعات الدينية كمشاهد التعبد وأداء الشعائر الدينية ؛ والاحتفالات والاساطير .
وقد تميزت الأعمال الفنية المصرية القديمة بخصائص تجريدية منها :
- استخدام الزخارف الهندسة فى زخرفة المقابر المصرية القديمة ؛ سواء على هيئة زخارف هندسية محورة من أشكال نباتية أو على هيئة مفروكة هندسية .
- كان الفنان المصرى يرسم عناصر صورة ورسومه تعبيرا عن إنطباعاته عن هذه الأشكال وليس تلقيدا حرفيا لأشكالها الطبيعية ، أى أنه يرسم عناصر صورة ورسومة كما يعرفها العقل لا كما تراها العين ، فقد كان يرسم رأس الإنسان فى وضع جانبى بينما جسمه كما لو كان فى وضع المواجهة أو يرسم الطيور فى وضع جانبى والجناحان كما لو كان الطائر بالمواجهة .
- كذلك لم يتقيد بقواعد المنظور بل رسم الشخصيات الهامة والرئيسية ( كشخصية الملك ) بشكل أكبر من غيرها حيث تحتل مركز السيادة فى العمل ؛ لتأكيد أهميتها وإبرازها وهذا يؤكد قدرة الفنان المصرى على التحكم فى نظام تصميماته بحيث تتفق والموضوع الذى يعبر عنه .
- وقد تميز أسلوبة بتقسيم اللوحات الجدارية إلى مساحات أفقية متوازية تفصلها أشرطة ضيقة ؛ تعمل على تقسيم اللوحة إلى عدة لوحات أو مساحات حيث تسجل عليها المشاهد والمناظر المراد تسجيلها ويذكرنا هذا بطريقة الكتابة المصرية القديمة التى تقوم على تقسيم المساحات أيضا والتى بدت كتبسيط لأشكال معروفة ؛ وسرعان ماتطورت حتى استقلت عن الأشكال الطبيعية المستوحاه منها .
وقد أثرت الحضارة المصرية القديمة بما لها من سحر أخاذ على فنانى المدرسة التجريدية الحديثة ؛ والذين أتاحت لهم كتابات علماء الحملة الفرنسية عن هذه الحضارة والرحلات العلمية الأثرية التى قام بها علماء الأثار . والفنانون لمصر فى العصر الحديث التعرف على القيم التجريدية فى الحضارة المصرية القديمة .
فقد كان من الآثار الايجابية للحملة الفرنسية على مصر – رغم أنها كانت صورة من صور الإحتلال – أن قام البارون " دومينيك فيفيان دينون " ( 1747 - 1825 ) – وهو أحد علماء هذه الحملة – بوصف ورسم التفصيلات الدقيقة لكثير من المعابد ؛ والأهرامات ؛ والأثار التى رأها فى منطقة الأهرامات بالجيزة وفى سقارة وأسوان ، ونشر مجموعة رسومه التى رسمها فى مصر فى كتابه رحلة فى الوجهين البحرى والقبلى عام 1802 وترجم هذا الكتاب إلى اللغتين الإنجليزية والألمانية بعد ذلك بيعت هذه المجموعة الكبيرة من الرسوم إلى العديد من المتاحف الإقليمية مما أتاح للملايين ومن بينهم الفنانين التعرف عليها .
هذا بالإضافة إلى الكتاب الذى الفته السيدة الفرنسية ( بو ) عن مقابر " طيبة " وتحدثت فيه عن أسلوب الفنانين المصريين ، وكذلك رحلات الفنان المعاصر " أندريه لوت " وزياراته المتكررة لمصر والتى دفعته للقول بأنه .. ليس من الإسراف ان نقول إن الدراسة الجادة العميقة لنماذج من التصوير المصرى القديم قد تقودنا إلى أنه من المنطلق الحق بفن التصوير الحديث ودعامة تطورة وإزدهاره .
وكان من نتيجة ذلك أن كتب جاك فاندييه عالم الأثار المصرية يقول إنا نملك الآن أن نقول أن المصريين كانوا الرواد الأوائل للمدرسة التكعيبية ( والتى تعتبر مدخل للإتجاه التجريدى ) والمدرسة الوحشية وأنهم كانوا أول من إبتكر الطبيعة الساكنة التى يؤثر أندرية لوت أن يسميها مائدة القربان .